لا يخفى على أحد تأثيرات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست) على المواطنين البريطانيين أنفسهم فقد تم تناول ذلك الأمر مرارًا بالبحث والدراسة، لكن ربما كان الموضوع الذي لم ينل حظه الكافي من الدراسة هو عواقب اتفاقية البريكست على مواطني العديد من الدول الأخرى. بالنسبة للمواطنين الأتراك الذين يتطلعون للعيش أو العمل في بريطانيا، فقد أنهت هذه الاتفاقية التاريخية اثنين من أهم المسارات التي لطالما كانت متاحة لهم للهجرة إلى الأراضي البريطانية. في تمام الساعة الحادية عشرة مساءً بتوقيت غرينتش من يوم 31 ديسمبر 2020، تم بدء التنفيذ الفعلي للبريكست وهو ما تضمن تعليق خيارين من أبرز خيارات التأشيرات البريطانية لمواطني تركيا، وهما تأشيرة رجال الأعمال الأتراك وتأشيرة العمال الأتراك. كانت هاتان التأشيرتان تعتبران من أسهل الطرق المضمونة للمواطنين الأتراك الذين يسعون إلى تأسيس أعمال في بريطانيا والاستقرار بها. في العامين الماضيين كان لتعليق هاتين التأشيرتين تأثير كبير زادت معه صعوبة وتعقيد الهجرة من تركيا إلى بريطانيا.
تم إطلاق كل من تأشيرة رجال الأعمال الأتراك وتأشيرة العمال الأتراك في بريطانيا بموجب اتفاقية الشراكة مع المجموعة الأوروبية (ECAA) أو ما تعرف باسم اتفاقية انقرة. والتي تم توقيعها بتاريخ 12 سبتمبر 1963. كان الهدف من الاتفاقية هو تعزيز العلاقات الاقتصادية بين تركيا والمجموعة الأوروبية تمهيدًا للاندماج الذي كان مزمعًا آنذاك بين تركيا والمجموعة الاقتصادية الأوروبية. وكانت بريطانيا جزءًا من تلك الاتفاقية بحكم عضويتها في الاتحاد الأوروبي. أما ما حدث في أعقاب تطبيق اتفاق البريكست حيث لم تعد بريطانيا عضوًا في الاتحاد الأوروبي، فقد اعتبرت الاتفاقية بين تركيا وبريطانيا لاغية وتم إيقاف قبول أي طلبات جديدة للهجرة إلى بريطانيا في إطار برامج التأشيرات المذكورة.
وفقًا للاحصائيات فإنه منذ عام 2000 بلغ عدد رجال الأعمال الأتراك الذين هاجروا إلى بريطانيا بموجب اتفاقية الشراكة مع المجموعة الأوروبية (باستخدام تأشيرة رجال الأعمال الأتراك) ما يربو على 30,000 فرد. وخلال النصف الأول فقط من عام 2019 استفاد 3,000 من حاملي جوازات السفر التركية من هذا المسار للهجرة وتمت الموافقة على منحهم تأشيرات إقامة في بريطانيا. وغني عن القول أن هذه التأشيرات كانت بمثابة طريقة فعالة للغاية لخلق روابط اقتصادية واجتماعية وثقافية بين البلدين. ومن قبيل المفارقة أنه بينما يحتاج المواطنون الأتراك إلى الحصول على تأشيرة دخول قبل السفر إلى بريطانيا، يستطيع المواطنون البريطانيون في المقابل السفر إلى تركيا بدون تأشيرة. يمنح هذا ميزة كبيرة لحاملي جوازات السفر البريطانية مقارنةً بنظرائهم من مواطني دول أخرى مثل كندا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث يتعين على مواطني هذين البلدين التقديم المسبق للحصول على فيزا تركيا الإلكترونية عن طريق استيفاء بعض المتطلبات الأساسية لفيزا تركيا، ودفع رسوم الفيزا عبر الإنترنت إذا ما أرادوا السفر إلى تركيا لأغراض مثل السياحة والأعمال.
باختصار تم إنشاء برنامجي تأشيرات رجال الأعمال والعمال الأتراك لتسهيل سفر المواطنين الأتراك إلى بريطانيا لتأسيس شركات أو مشاريع تجارية وكذلك العمل والدراسة والعيش في بريطانيا. وكان يتم منح تأشيرة رجال الأعمال الأتراك للمتقدمين الذين لديهم قدرات مثبتة في إدارة الأعمال ويمتلكون رأس المال الكافي للحفاظ على استقرار تلك الأعمال الناشئة، كما طُلب من المتقدمين إثبات قدرة شركاتهم على الاستدامة وقدرتهم على دعم أنفسهم والمُعالين المرافقين لهم وإثبات نظافة سجلاتهم الجنائية. كذلك كانت تأشيرة العُمّال الأتراك مثالية للأفراد الذين يتطلعون للعمل في بريطانيا بشكل قانوني. وبالإضافة إلى غرضهما الأصلي، تسمح كلتا التأشيرتين لحامليهم بالدراسة ومزاولة العمل التطوعي بالإضافة إلى عملهم الأساسي. ولكن في المقابل لا تسمح هذه التأشيرات بالتقاعد الحكومي في بريطانيا، كما يتعين على حاملي تأشيرة رجال الأعمال الأتراك مواصلة العمل في نفس الأعمال مثلما كان الحال عند تقديمهم للحصول على التأشيرة لأول مرة.
كانت هذه هي الشروط التي كان على المواطنين الأتراك الالتزام بها للحصول على إحدى التأشيرتين في بريطانيا. وعندما بدأ تعليق التأشيرتين يدخل حيز التنفيذ، حافظت الحكومة البريطانية على التزامها بالسماح للمواطنين الأتراك وأفراد أسرهم الذين يقيمون في البلاد بموجب أيٍّ من تأشيرتي اتفاقية أنقرة (ECAA) بإمكانية طلب تمديد تلك التأشيرات لمواصلة الإقامة في بريطانيا بشكل قانوني. كذلك التزمت الحكومة البريطانية بالنظر في جميع الطلبات التي تم تقديمها قبل حلول الموعد النهائي لإيقاف تلك البرامج.
بالنسبة للمواطنين الأتراك الذين كانوا يقيمون بالفعل في بريطانيا بموجب تأشيرة رجال الأعمال الأتراك، فمن الممكن لهم التقديم لتمديد إقامتهم لمدة 3 سنوات إضافية، بشرط استيفائهم لمعايير الأهلية التي كانت مطلوبة عند التقديم. أما بالنسبة لحاملي تأشيرة العمال الأتراك حاليًا في بريطانيا فإن القواعد مختلفة بعض الشيء. حيث يمكنهم أيضًا التقديم مجانًا لتمديد تأشيراتهم لمواصلة العيش والعمل في بريطانيا في حالة استيفاء شروط الأهلية. ومع ذلك يتم منح الأفضلية للمتقدمين الذين عملوا لفترات أطول في بريطانيا. بالنسبة للعمال الأتراك الذين عملوا في بريطانيا لمدة تتراوح بين 3 إلى 4 سنوات، يمكنهم فقط التقديم لطلب تمديد تأشيراتهم لمدة عام واحد ولا يجوز لهم تغيير المهنة التي يعملون بها، وإنما بإمكانهم فقط تغيير صاحب العمل في نفس المجال. أما بالنسبة لمن عملوا في بريطانيا لأكثر من 4 سنوات، فيمكنهم التقديم لطب تمديد تأشيراتهم لمدة 3 سنوات كما يُسمح لهم بتغيير المهنة والعمل في أي مجال لدي أي صاحب عمل. ويمكن للمتقدمين الذين يستوفون الشروط تمديد تأشيراتهم عدة مرات كما يريدون.
أما فيما يتعلق بأفراد الأسرة المُعالين من قبل حاملي التأشيرات الحاليين ومن يقومون بتمديد تأشيراتهم، فإن بريطانيا تسمح لهم باستقدام أبنائهم المُعالين الأقل من 21 عامًا للانضمام إليهم في بريطانيا. وهذا يعني أنه يمكن لم شمل الآباء في بريطانيا بأطفالهم إذا تمت الموافقة على طلباتهم. ولكن في المقابل لا تقبل بريطانيا أي طلبات جديدة من الأبناء الذين تزيد أعمارهم عن 21 عامًا أو الأزواج المعالين التابعين لحاملي التأشيرات الحاليين للقدوم إلى بريطانيا، ولكن يمكن لأفراد الأسرة المُعالين الموجودين بالفعل في بريطانيا كمُعالين لحاملي التأشيرات الحاليين أن يقوموا بتمديد تأشيراتهم هم أيضًا.
في حين أن هذه المتطلبات قد تبدو معقولة لضمان استمرار حياة هؤلاء الأفراد الذين استقروا بالفعل في بريطانيا، إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة حيث تستغرق عملية التقديم لتمديد هذه التأشيرات الكثير من الوقت والإجراءات. يمكن لمقدمي طلبات التمديد الانتظار لمدة تصل إلى 6 أشهر من أجل معرفة نتيجة طلباتهم، وخلال هذه الفترة قد تتغير ظروفهم. وكما هو الحال مع أي عملية طلب تأشيرة، فإنه لا يوجد ما يضمن أن تتم الموافقة على طلبات هؤلاء الأفراد لتمديد إقامتهم.
ولا يزال من غير المعروف كيف ستكون تحديدًا الآثار بعيدة المدى لقرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي سوف يشهدها الوضع الاقتصادي للاتحاد الأوروبي والعديد من الدول مثل تركيا التي ارتبطت اقتصاداتها لعقود من الزمان بالمجموعة الأوروبية.